وظفت التكنولوجيا في الفضاء السياسي العام لنقل المعلومات والصور والبيانات، سواء بين المتظاهرين داخل مصر أو بينهم وبين العالم الخارجي، ما عزّز العلاقة والتفاعل بين الفضاء التخيلي والفضاء السياسي العام؛ فقد حاول النظام المصري فرض التعتيم المعلوماتي، بدءًا من ليلة ٢٨ كانون الثاني / يناير ۲۰۱۰ من خلال غلق خدمات شبكات التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول اتصال) ورسائل قصيرة وشبكات مغلقة وخدمات تويتر كخطوة أولى لحصار المتظاهرين ومنع مزيد من المواطنين من الانضمام إليهم. تلت هذا محاولات للتشويش على المحطات الإخبارية الكبرى التي حضرت على الأرض، واستطاعت تقديم مادة إخبارية متميزة، عبات الجبهة الداخلية ووفرت الدعم الخارجي. كما عمد النظام إلى التضييق على الصحافيين والمراسلين الأجانب وتحطيم معداتهم والقبض على بعضهم. لكن المتظاهرين استطاعوا قلب الأحداث فوظفوا قدرة تكنولوجيا الاتصالات الهائلة لتجاوز الرقابة الحكومية واستغلت النخبة الجديدة إمكاناتها التكنولوجية في كسر الحجر على شبكات التواصل الاجتماعي، ووظفت مواقع لا تخضع لسيطرة الحكومة المصرية لنقل المعلومات (٣٥). كما عدلت المحطات الإخبارية إشارات البث الخاصة بها لتجاوز التشويش واستُخدم السلاح الأمضى في المجتمعات التي تعاني من ارتفاع نسبة الأمية، أي الثقافة الشفهية، وجرى تداول المعلومات عمّا يحدث ـ في مناطق مختلفة من مصر - شفويا وبطريقة مبالغ فيها في بعض الأحيان، لكن حتى هذه المبالغات أضرت بالنظام السياسي، الذي ظهر عاجزا عن التصرف بحكمة، في مقابل روايات عن أعداد المتظاهرين وبطولاتهم في مواجهة قوات الأمن والبلطجية)[1](.
([1]) الثورة المصرية الدوافع و الاتجاهات ..المركز العربي للأبحاث مجموعة مؤلفين ص107-108
سجلت الأحداث والوقائع، أن ثورة ٢٥ يناير تُعَدُّ النموذج الواضح والأمثل للفاعلية الكبيرة لهذه الوسائل، وفي مقدمتها الفيسبوك كوسيلة للتعبئة الجماهيرية والحشد نحو مطالبات ثورية كبرى كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.وكان من نتاج هذه التفاعلات عبر آليات شبكة الإنترنت، قيام ثورة ٢٥ يناير على نحو غير مسبوق. في تفسير لهذا القدر الكبير من الحشد الجماهيري، يبدو أن التفاعلات في مجتمع شبكة الإنترنت، هي تفاعلات أفقية لا تفاعلات رأسية. فالشبكة لا رئيس لها والمتعاملون في رحابها لا يتلقون تعليمات أو توجيهات من أحد ولا يخضعون للرقابة المباشرة من أي جهة. فهم أحرار تماما ويمارسون حريتهم في التعبير عن أنفسهم، كما هي الحال في المدوَّنات والفيسبوك والتويتر. وقد تحمل هذه الحرية في طياتها نقدا سياسيا عنيفًا ضدّ المجتمع الأبوي عامة ـ سواء تجسّد ذلك في سلطة الزعماء السياسيين أو حتى سلطة الأب في الأسرة ـ وضد النظم الشمولية والسلطوية مباشرة. كما يُلاحظ أن جميع أولئك الذين يعبرون عن آرائهم بحرية هم أنداد ولا يخضعون لأي سلطة. كل ما يحدث في هذه الشبكة، هو في إطار من الندية الكاملة من هنا يمكن القول: إن ثورة ٢٥ يناير في مصر كانت بلا قيادة أو رأس كما يقال، فقط لأنها حصيلة تفاعلات مركبة وتشبيكات معقدة، استمرت فترة طويلة، وتضمنت انتقادات بالغة الحدة والعنف ضد النظام السلطوي المصري وانتهت هذه الانتقادات بالاتفاق على النزول إلى ميدان التحرير يوم ٢٥ كانون الثاني/ يناير الموافق لعيد الشرطة.
هكذا اندلعت الثورة على يد شباب الفيسبوك، الذين دعوا إلى التظاهروالاحتجاج في شوارع مصر وميادينها، والتفت حولهم جموع الشعب، فتحولت بحكم الملايين المشاركة في التظاهر والاجتماع، إلى ثورة شعبية قامت لهدم النظام القديم، ولمحاولة بناء النظام الجديد على أساس الحريةوالديمقراطية والعدالة الاجتماعية.وبحسب ما يرى الكاتب الفرنسي روبير ،سولين، استطاع الشباب الثوار في مصر انتزاع الاعتراف بهم من المجتمع الأبوي الضاغط، ومن النظام السلطوي الغارق في الدكتاتورية.يتضح من ثم الدور الإيجابي لآليات الشبكة العنكبوتية المعروفة بشبكة الإنترنت وهي الفيسبوك والتويتر بصفة رئيسية في حشد الجماهير للثورة على النظام الاستبدادي في مصر حتى إسقاطه تماما.([1])
([1]) السابق ص152-153
أكدت تطوّرات الأحداث بعد سقوط الدولة البوليسية» في مصر مساءيوم ٢٨ كانون الثاني/ يناير (۲۰۱۱ أن على الشعب تَحمُّل مسؤولية أمنه مباشرة، وخصوصًا مع سريان شائعات من القوى المضادة للثورة ـ للالتفاف عليها وإجهاضها إن أمكن - بأن البلطجية يتحركون في كل حي وكل شارع على مستوى الجمهورية لسلب الناس ونهبهم واغتصابهم ليلا. سرت حالة خوف ،شدید سرعان ما بددها الشباب أنفسهم بتأليف لجان شعبية في كل مربع سكني وفي المداخل الرئيسية لكل حي أو مدينة وفي الشوارع الرئيسية. وقد ظهرت هذه المجموعات (اللجان) وكأنّها مسلّحة لمواجهة أي طوارئ ؛ فهي تفتش السيارات وتتأكد من هوية الأشخاص الذين يركبون السيارة أو الحافلة أو حتى الدراجة النارية وذلك بهدف التأكد من عدم حمل الأسلحة أو أي وسائل عنف وقد نجح الشباب في مهمتهم طوال شهر كامل (من بداية شباط فبراير حتى نهايته، وفي خلاله تنحى حسني مبارك في ١١ شباط (فبراير) حيث كان عملهم يبدأ مع بداية ساعة حظر التجول ويستمر حتى صباح اليوم التالي بانتهاء حظر التجول. وقدم الشباب المصري في عموم مصر تجربة جديرة بالنظر في حماية ثورته من التعرّض لمحاولات الالتفافوالإجهاض. إنّها تجربة تضاف إلى رصيد الشباب في الدعوة إلى الثورة وحمايتها في آن. وقد قدّم الشباب المصري بهذه التجربة نموذجا لكيفية سد الفراغ الأمني عند انسحاب الشرطة وتَنَصُّلها من تأدية دورها ووظيفتها في خدمة الشعب وحفظ أمنه والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة. خلال هذه الفترة، استطاع هؤلاء الشباب أن يُشعروا بقية أفراد الشعب بأن أبناءهم قادرون على حمايتهم في الظروف الاستثنائية. ولا تزال التجربة تعمل في المواقف الطارئة، وآخرها حماية لجان امتحانات الثانوية العامة، وشهادات معادلة الدبلومات الفنية. وهي تجربة نموذجية أكدت أن انهيار مؤسسة أمنية متسلطة، عانى الشعب منها ومن أدائها المعادي له، لم يسبب انهيار الشعب بل حفزه على حماية نفسه بأبنائه الشباب كما تؤكد التجربة أن الانتشار الأفقي للثورة كان أحد العوامل الأساسية لحمايتها من أعدائها والقوى المضادة لها. ولم يكن الأمر إذن مقصورًا على المركز في القاهرة أو المراكز في عواصم المحافظات، بل وصل إلى كل شارع وحارة وحي وقرية ومدينة في أنحاء مصر كلها. ولو لم تكن الثورة قد وصلت إلى المناطق كلها أو معظمها على الأقل لما كان لتجربة اللجان الشعبية أن تنجح في سد الفراغ الأمني؛ فنجاحها إذن، تأكيد للانتشار الأفقي للثورة في سائر أرجاءمصر.([1])
([1]) السابق ص153-154
بالعودة إلى الأسباب الحقيقية التي أفضت إلى ظهور المعارضة السياسية الإلكترونية في مصر على هذا النحو، يتبين أن الشعور العام باليأس والإحباط والعزوف الجماعي عن المشاركة في الحياة السياسية، جاء في مقدمة هذه الأسباب ورأت مجموعات كبيرة من الناشطين سياسيا، أن الفضاء الإلكتروني هو البديل الآمن لممارسة الحقوق السياسية. تشير هذه النقطة إلى مفارقة جديرة بالاهتمام في مسيرة المعارضة السياسية الإلكترونية. أن المعارضة بدأت تعبيرًا عن حالة العزوف عن ممارسة الحقوق السياسية في الشارع، إلا أنّها انتهت بالعودة إلى الشارع مرة أخرى، بحض الجميع على النزول إليه للتعبير عن آرائهم ومطالبهم وحقوقهم السياسية. لكن الجديد هذه المرّة أنّ استجابة "الشارع" جاءت مفاجئة للجميع. جاءت الاستجابة سريعة ومنظمة وبأعداد غفيرة، بحيث جعلت النظام السابق يفشل في التعاطي معها أو القضاء عليها، على الرغم مما لديهمن قوّة بشرية ،وتقنية وتاريخ طويل في ممارسة القمع والقهر السياسي.([1])
([1]) السابق ص324-325
لا يمكننا الادعاء أن نجاح الثورة المصرية يرجع إلىسبب وحيد فقط، يتعلق بتوظيف شبكة الإنترنت في المجال السياسي على النحو الذي أشير إليه سابقا ؛ فثمة تاريخ عريض من النضال السياسي المتراكم خلال العقود الثلاثة الماضية - بلغ ذروته في العقد الأخير ـ قاده أفراد وجماعات وحركات اجتماعية وسياسية استندت إليه الثورة عندما اندلعت. بمعنى آخر، يمكن القول إنّ الثورة جاءت تتويجا للنضال السياسي السابق لها الذي لولاه لما نجحت ولما تحققت أهدافها ساعدها في ذلك ـ أيضًا - تضافر عوامل أخرى عدة، مثل ردود الأفعال الأمنية العنيفة التي أمدت الثورة بالوقود اللازم لاستمرارها نعني بذلك دماء الشهداء؛ إضافة إلى وجود بؤر للصدام العنيف بين الشرطة والمتظاهرين في كلّ من السويس والإسكندرية، بما لهما من تاريخ نضالي عريق في مقاومة المحتل الأجنبي خلال فترات تاريخية سابقة ؛ ثمّ نجاح الثورة التونسية التي سبقت الثورة المصرية بأيام معدودة. تضافرت العوامل السابقة ،وغيرها إذن لإنجاح الثورة المصريةالتي تحوّلت بدورها إلى نموذج اهتدت به ثورات ليبيا واليمن وسورية.([1])
: من الدلالات المهمة التي يمكن استخلاصها من مشهد المعارضة السياسية الإلكترونية في مصر، أنّ الثورة التي تمخضت عنها قد تميزت بما يمكن وصفه بـ «النقاء الثوري». نعني بذلك أن الثورة قد حددت هدفًا معلنا منذ البداية، ولم تساوم أو تفاوض عليه أو تتنازل عنه في مقابل تحقيق مرحلية أخرى بدت أقلّ أهمية من وجهة نظر الثوار. وقد تحدد هذا الهدف في إسقاط النظام ؛ أي أنّها لم تدخل في أي مساومات مع النظام، أو أي مع قوى المعارضة الأخرى، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، ولم تعقد أي صفقات مع الخارج. أربكت ظاهرة النقاء الثوري تلك، النظام السابق، كما أربكت القوّة الأكثر تنظيما في مصر، وهي جماعة الإخوان المسلمين أكبر دليل على ذلك، تناقض مواقف الجماعة في استجابتها للدعوات التي أطلقها الناشطون السياسيون في الفضاء الإلكتروني إلى الخروج الجماعي في تظاهرة الثلاثاء ٢٥ كانون الثاني/ يناير. انتهى موقف الجماعة لدى هذا المأزق - كعادتها - إلى حل وسط، يقرّر أن من يشارك الجماعة في هذه التظاهرة، إنّما يمثل شخصه فقط، ولا يعبر في ذلك عن موقف الجماعة. إلا أن موقف الجماعة ما لبث أن تغير جذريًا، بعدما فوجئ الجميع بعدد المشاركين في هذه التظاهرة ، فسارع الجميع إلى اللحاق بركب الثورة؛ إما لقطف الثمار أو لتحمل عبء التغيير ودفع الثمن. تتابع بعد ذلك خروج التظاهرات المليونية أيام الجُمَعِ - في تعبير عن حالة إبداع ثورية فريدة - لا في ميدان التحرير فحسب بل كذلك في ميادين مصر الكبرى المختلفة، بفضل ذاك النقاء الثوري([1])
([1]) السابق ص328-329
على خلفية هاتين الحادثتين الفارقتين انطلقت الدعوات في الفيسبوك إلى النزول إلى الشارع يوم عيد الشرطة الذي يصادف ٢٥ كانون الثاني/ يناير من كل عام للمطالبة بوقف التعذيب المنظم في السجون، وتقديم المتورطين في جرائم التعذيب إلى التحقيق هكذا، تزامن ذلك النشاط الإلكتروني المتصاعد، احتقان شديد متصاعد في الشارع المصري، ومع مشروع للتوريث انتقل من مرحلة الاختبار إلى مرحلة التنفيذ. تزامن هذا كله مع أضخم عملية تزوير منهجي لانتخابات برلمانية لم تشهد مصر لها مثيلا - بحسب قول خبراء في القانون - من ناحية ومع قرب إجراء انتخابات رئاسية، لا تنطبق شروط الترشح لها إلا على شخصين في مصر هما الرئيس السابق ونجله. يتضح إذن أن ظاهرة المعارضة السياسية الإلكترونية تزامنت لحظة مؤاتية، مثلتا معا القشة التي قصمت ظهر البعير»، الأمر الذيمهد الطريق لاندلاع الثورة ونجاحها في إسقاط النظام السياسي السابق.([1])
([1]) السابق ص358
ولقد لعبت تكنولوجيا الاتصالات التي أدخلت إلى مصر بحكم ارتباطها بالسوق العالمية دورًا هائلا في خلق جيل من الشباب الذي يجيد استخدام هذه التكنولوجيا ( ولكن لا يستطيع إنتاجها ، مما وسع آفاقه وجعله مطلعا على أحوال العالم؛ مما فاقم من شعوره بوطأة النظام الفاسد والرجعي.هذه التكنولوجيا لعبت دورًا جوهريا في كسر النظام في ثورة 25 يناير.([1])
([1]) عادل العمري نقد الثورة المصرية 1 ص43
نهتم بمشاركاتك لتسجل علي الموقع معلوماتك
تعليقات القراء