لم يكن اندلاع ثورة 25يناير منفصلاً عن سياق دولى واقليمي تفاعل مع الشأن المصري واثر فيه. من ذلك:
اندلعت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، وقدمت للعالم نماذج هائلة من الصمود، والإرادة، ورفض الظلم، والسعي للشهادة في سبيل الله، وكانت التغطية الإعلامية لأحداثها تثير في نفوس المسلمين والعرب ذكريات تاريخ ماجد، يجدونه حيًّا متجددًا بين أيديهم، وشاهد الشباب - الذي سيتظاهر بعد ذلك في ميدان التحرير- الطفل الفلسطيني الأعزل يقف امام دبابة، ورأي الشعب الفلسطيني يحقق انتصارات جزئية بالرغم من فارق القوة، مع تراكم مشاعر الغضب والقهر إزاء عجز الأنظمة الحاكم في مواجهة الغطرسة والعدوان الصهيوني.
أدى ذلك إلى موجة تعاطف وحراك شعبي مناصرة لفلسطين، وتكونت أطر تنظيمية عابرة للانتماءات السياسية مثل اللجنة المصرية الشعبية لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني، والتي كسرت حاجز منع التظاهرات، فكانت التظاهرة الأكبر في ميدان التحرير 10سبتمبر 2001، وشارك في الدعوة اليها نشطاء من تيارات متعددة، وبلغت الحشود ذروتها عام 2002عندما تظاهر مليون مواطن في مناطق مختلفة، وفق تقديرات الباحثين ([1]).
وقد توقع الدكتور عبد الوهاب المسيري أن تكون للانتفاضة الفلسطينية؛ وتخاذل الأنظمة العربية إزاء اعتداءات الكيان الصهيوني؛ ارتدادات مؤثرة على استقرار هذه الأنظمة، فقال في مقابلة مع صحيفة "البيان" عام 2001: "إن لم تقم الدول العربية بدعم الانتفاضة، أعتقد أنه سيكون له مردود سيئ للغاية على الشارع العربي، وأعتقد أنه سيتبع ذلك عدم استقرار النظم العربية".
([1])عزمي بشارة: ثورة مصر الجزء الأول ص242،
لقد نجحت حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية في قطاع غزة، في يناير 2006م، وحصولها على 74 مقعدًا من بين 132، بينما حصلت حركة فتح على 45 مقعدًا، واضطر محمود عباس إلى تكليف إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة الفلسطينية.
لقد بذلت إسرائيل جهودًا هائلة للحيلولة دون الوصول إلى تلك النتائج، ثم استمرت جهودها لدعم حركة فتح، وتحريض محمود عباس لمحاربة حماس، وحاولت فتح الانقلاب عسكريًا على نتائج الانتخابات؛ مدعومة بسياسات التضييق والعداء الصهيوني، وبدعم أمريكي غير محدود لإسقاط حماس، لكن يقظة حماس أجهضت ذلك، واستطاعت تأمين حكمها للقطاع في يونية 2007م، ففرضت إسرائيل الحصار الكامل على قطاع غزة، واعتبرته في أكتوبر 2007 "كيانًا معاديًا"، بينما أيدت الإدارة الأمريكية ورئيسها جورج بوش الابن إسرائيل في سياستها ضد حكم حماس سعيًا إلى إفشالهم، وأنفقت أمريكا أموالاً ضخمة في تسليح مقاتلي فتح وتدريبهم، حتى استقال ديفيد وورمز - مستشار نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني للشرق الأوسط، احتجاجًا على ما أسماه "نفاق إدارة بوش"، "وقال إن إدارة بوش تشارك في حرب قذرة في محاولة لتوفير ديكتاتورية فاسدة بقيادة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وقال: "إن هناك انفصالاً مذهلاً بين دعوة الرئيس للديمقراطية في الشرق الاوسط وهذه السياسة التي تتناقض مع ذلك مباشرة".([1])
ويبدو أن الإدارة الأمريكية لم تغير سياستها -فيما بعد- إزاء مصر بعد ثورة 25 يناير، حيث أيدت خلع مبارك لما تيقنت بحتمية سقوطه، وأيدت إجراء انتخابات حرة أملاً في فوز الاتجاهات الليبرالية العلمانية، فلما فاجأها فوز الإسلاميين عمدت إلى تأييد السياسات التي تؤدي إلى إفشال تجربتهم في الحكم.
ثم جاء العدوان الصهيوني على غزة سنة 2009، الذي أسموه "الرصاص المصبوب"، وأسمته حماس "معركة الفرقان"، وكان صمود حماس في المقاومة ملهمًا للشارع العربي والإسلامي، وتظاهر عشرات الآلاف من الإخوان المسلمين ومؤيديهم في ميدان التحرير وعدة أماكن أخرى ([2])، ولجأ الأمن إلى قمع محاولة روابط التراس الأهلي و الزمالك، ومنعهم من الهتاف لفلسطين في مباريات كرة القدم آنذاك([3]).
[1] الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006، مقال بويكيبيديا، الموسوعة الحرة، على الرابط: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9_2006
[2] كتاب ثورة مصر الجزء الأول ص280
[3] كتاب ثورة مصر الجزء الأول ص280
ولما حدث الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 تأسست في مصر الحملة الدولية ضد الصهيونية والاحتلال، والتي عقدت مؤتمرا دوليًا سنويًا في نقابة الصحفيين، حضره نشطاء ساسة من مصر وغيرها، ومن أجيال متباينة، وهو ما وفر فرصًا للالتقاء والتعارف والتعاون بين الشباب من التيارات المختلفة ممن كانوا يحضرون تلك الفعاليات، فتولد بيتهم قدر من الثقة شجعهم على التنسيق في قضايا أخرى([1]).
كما تحرك الشارع المصري احتجاجا على احتلال العراق، وسمح النظام للمعارضة بتنظيم اكبر احتجاج جماهيري في استادات الجمهورية، وبلغ الاحتجاج ذروته بتظاهر 40 الفًا في ميدان التحربر يوم 20مارس 2002([2])، وقد تصدى الإخوان لترتيب هذه الفعاليات بمشاركة اخرين، وهو ما اكسب بعض كوادرهم - خاصة الشباب والطلاب - مهارات تنظيم فعاليات لعشرات الألاف ([3]).
كانت مشاعر الغضب تتراكم في نفوس الشعوب وهي ترى عاصمة واحدة من أكبر الدول العربية تسقط تحت الاحتلال، وتشاهد رئيسها معلقًا بحبال المشانق في يوم العيد الأكبر، وترى العراق بأهله وعلمائه وثرواته وتاريخه نهبًا مستباحًا، تسيطر عليه الطائفية الحاقدة، وتتعزز سطوتها كل يوم، بينما تعجز الأنظمة عن فعل شيء يوقف ذلك الانهيار الحثيث، بل تسهم جيوش تلك الأنظمة في صنع جوانب من هذه المأساة.
بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر الذي استهدف مبنى التجارة العالمية؛ وأماكن أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية؛ واتهام عدد من الشباب العربي والإسلامي بالضلوع فيها؛ أدركت السياسة الأمريكية أن انسداد الأفق السياسي في البلاد العربية والإسلامية يقف خلف ظهور تيارات تتبنى العنف في التعبير عن مواقفها وتطلعاتها.([1])، اسفرت الضغوط الأمريكية عن اجراء اول انتخابات رئاسية تنافسية في مصر خاضها د. أيمن نور أمام مبارك الذي كان وقتها قد امضي في الحكم 24 عام، وأجريت انتخابات برلمان 2005 ، فتمكن الإخوان من انتزاع 88 مقعد في ظل ما أُجبرت السلطات في حينه علي إتاحته من نزاهة نسبية في المرحلتين الأولى والثانية ، وسرعان ما تراجعت عنها في المرحة الثالثة. ([2])
وقد راج في الأوساط السياسية أن مصر احتاجت وساطة اسرائيلية ودعمًا من اللوبي الصهيوني في واشنطن لشرح مخاطر تقدم الإخوان، وضرورة التسامح مع الخظوات المتشددة التي سيقوم بها نظام مبارك للحيلولة دون ذلك. ([3])
([1]) شهادات وزير سابق و عضو بلجنة التنمية الإدارية المركزية (ص3) وقيادي بحزب البناء والتنمية (ص1)
([2]) عضو شورى عام وعضو بأحد مكاتب القاهرة بجماعة الإخوان (ص1)
[3] كتاب ثورة مص الجزء الأول ص292
في ظل الضغوط الدولية المتصاعدة لإحداث انفراجة في الأفق السياسي المصري؛ اضطر مبارك في إلى إجراء تعديل دستوري في المادة 76 التي تنظم انتخابات رئاسة الجمهورية، بما يتيح ترشح أكثر من واحد للانتخابات، بعدما كانت تجري بالاستفتاء المباشر الذي يأني بنتيجة مضمونة سلفًا. ووافق على مجلس الشعب التعديل المقترح في مايو 2005، فأجريت أول انتخابات تعددية في تاريخ الجمهورية المصرية منذ ثورة 1952، أسفرت عن فوز مبارك بنسبة 88.5% من الأصوات، وتلاه أيمن نور رئيس حزب الغد بنسبة 7.6% ثم نعمان جمعة رئيس حزب الوفد بنسبة 3%.
لقد تراجعت الضغوط الغربية للسماح بالحريات في العالم العربي؛ بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وجاء الرد متوقعًا، فطالب مبارك في ديسمبر 2006 بتعديلات دستورية جديدة تناولت المادة 76 المنظمة لانتخابات الرئاسة، ضمن حزمة تعديلات شملت 34 مادة، مما فجر معارضة واسعة، وكالعادة وافق مجلس الشعب على التعديلات، وطرحت للاستفتاء ، وجاءت الموافقة المتوقعة في مارس 2007([1]).
وقد أوضح بهي الدين حسن "مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان" أن أكثر من 50% من التعديلات المقترحة لا يترتب عليها تعديل جوهري في واقع الحال، بينما بقية التعديلات يترتب عليها:
• إنهاء الإشراف القضائي الجزئي على الانتخابات العامة، الذي أدى إلى فضح مدى حجم الزيف والافتقار للنزاهة والشفافية فيها. وبالتالي العودة إلى نمط الانتخابات الذي يستطيع النظام الحاكم من خلاله التحكم بنتائجها.
• مزيد من الإضعاف للضمانات الدستورية لحقوق الإنسان، مما يمنح سلطات الأمن صلاحيات مطلقة في الاعتقال، واقتحام المنازل، ومراقبة المراسلات البريدية، والاتصالات التليفونية دون اشتراط إذن قضائي، مع احتمال إنشاء نظام قضائي خاص –لمنح التراخيص والتغطية اللازمة لأجهزة الأمن بدعوى مكافحة الإرهاب، وفي كل الأحوال يمكن إعلان حالة الطوارئ جنبًا إلى جنب قانون مكافحة الإرهاب.
• تعزيز إمكانات تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، وذلك بإنشاء مجلس جديد لرؤساء الهيئات "القضائية"، برئاسة رئيس الجمهورية.
• إغلاق الطريق أمام استيعاب الإسلام السياسي، وذلك بالنص على حظر الأحزاب الدينية، الأمر الذي سيفاقم الاحتقان السياسي والطائفي الديني في المجتمع، في ظل إغلاق الباب أمام نشأة أحزاب سياسية حية، ومحاصرة الموجود منها بالقيود التشريعية والإدارية والأمنية .([2])
([1]) راجع نصوص المواد المعدلة على موقع الهيئة العامة للاستعلامات، بعنوان: "تحديث دستور مصر، توافق مجلس الشعب والشورى حول التعديلات الدستورية"، على الرابط: تحديت الدستور
([2]) بهي الدين حسن: "دور المجتمع المدني في التعديلات الدستورية" مركز كارنيجي في 23 أغسطس 2008، على الرابط:
صاغ ثلاثمائة من المثقفين والشخصيات العامة تمثل كل الأطياف السياسية المصرية وثيقة تأسيسية في يوليو 2004، تطالب بتغيير سياسي حقيقي، وإنهاء الظلم الاقتصادي والفساد في السياسة الخارجية، وعُرفت حركتهم باسم: "كفاية"، تعبيرًا عن رفض استمرار مبارك في الحكم. وتلاقت تلك الشخصيات على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية لمواجهة أمرين أساسين:
الأول: المخاطر والتحديات الهائلة التي تحيط بالأمة العربية، والمتمثلة في الغزو الأميركي للعراق، والعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، ومشاريع إعادة رسم خريطة العالم العربي، وآخرها مشروع الشرق الأوس
الأمر الثاني: مواجهة الاستبداد الذي أصاب المجتمع المصري، مما يستلزم إجراء إصلاح شامل سياسي ودستوري، يضعه أبناء هذا الوطن، وليس مفروضا عليهم تحت أي مسمى.
وتوسع عمل وتأثير حركة كفاية وامتدت إلى 22 محافظة من أصل 29، وتحدت الأوامر بعدم التظاهر، ورفعت من شأن التحدي الإعلامي للنظام، وتناولت بالنقد الشديد شخصيات كان من المحظور الإشارة إليها، مثل أفراد أسرة الرئيس المصري وخاصة زوجته وولده جمال المرشح لخلافته. وساعدتها بنيتها التنظيمية الشبكية على الحركة بمرونة كبيرة، وتولدت عنها حركات فئوية خاصة مثل "شباب من أجل التغيير"، و"عمال من أجل التغيير"، و"صحفيون من أجل التغيير"، و"طلاب من أجل التغيير"، فخرجت من عباءتها كوادر وأفكار استخدمتها الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان المسلمين في نشاطات موازية.
ومما ساعدها في زيادة شعبيتها إعلانها عدم سعيها للوصول إلى السلطة في استقطاب مثقفين لهم وزنهم في الساحة الفكرية والثقافية والسياسية المصرية، كالمفكر الراحل د.عبد الوهاب المسيري([1]).
([1]) اجع عزمي بشارة: ثورة مصر ج1 ص244، وتقرير بعنوان "حركة كفاية" موقع الجزيرة، في 28 نوفمبر 2015،على الرابط: https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2015/11/28/%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D9%83%D9%81%D8%A7%D9%8A%D8%A9
([2]) ثورة مصر الجزء 1 ص312
تولى محمد مهدي عاكف مسؤوليته مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين في يناير 2004م، ووافقت طبيعته المنفتحة على الآخر ذلك الحراك الشعبي الذي تواصلت في شتى الاتجاهات السياسية في مصر، فأطلق مرشد الإخوان محمد مهدي عاكف مبادرة للإصلاح اعلن عنها من قلب نقابة الصحفيين في مارس 2004([1])، والتي نادت برفض كل صور الهيمنة الأجنبية، وتحقيق إصلاح شامل يحقق آمال الشعب، في حياة كريمة ونهضة شاملة، تبدأ بالإصلاح السياسي الذي ينبغي أن تتضافر لإنجازه الجهود جميعًا، ويشمله شعار الجماعة بأن "الإسلام هو الحل"، وجاءت المبادرة في 13 محورا تناولت رؤية شاملة في المجالات كافة. ([2])
وفي مايو 2005 نظم الإخوان المسلمون مظاهرات أمام المساجد في كافة المحافظات للمطالبة بالإصلاح، واستطاعوا حشد عدة آلاف في هذه المظاهرات، وقابلتها الحكومة بإجراءات عنيفة، وصلت حد اعتقال ألفين منهم، وإحالة 600 إلى النيابة للتحقيق معهم. وقد استشهد أحد أعضاء الإخوان في هذه المظاهرات بمدينة طلخا، فصعد مهدي عاكف من أبداء معارضته للنظام، وهدد بالعصيان المدني، وابدي مواقف داعمة لحركة كفاية، وصلت حد تصريحه بعضويته فيها([3]).
لم تكن مشاركة الإخوان في مظاهرات حركة كفاية دائمة، وكانت الجماعة تكتفي بالتنسيق معها في بعض الفعاليات،([4]) إذ كانت ردود فعل النظام الحاكم تجاه الإخوان أكثر عنفًا وضراوة بسبب مخاوف النظام، وإذا كان تاريخ الإخوان مع النظام الحاكم -منذ ثورة يوليو 1952- حافلاً بالمظالم، ومنها بتقديمهم إلى المحاكمات العسكرية- التي بلغت 9 محاكمات حتى ثورة 25 يناير - فإن سبعة منها كانت في زمن حكم حسني مبارك([5]).
كما استثمر الإخوان أجواء الانفتاح التي سبقت اول إنتخابات رئاسية تعددية سنة 2005، واعلنوا عن مشاركتهم في تأسيس التجمع الوطنى للتحول الديمقراطي برئاسة د.عزيز صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق، والذي ضم أحزابًا رسمية وأخرى غير مرخص لها، بالإضافة لعديد من الشخصيات المستقلة، ونقابيين، وأكادميين، ومنظمات مجتمع مدني، واعلن التجمع بأن هدفه هو أقامة نظام ديمقراطي حقيقي ([6]).
وهكذا تعددت الجبهات التي تنادي بالإصلاح و التغيير، وتلاقت جهودها في أعمال مشتركة وفاعلة. كما انتشرت ظاهرة الحركات الاحتجاجية، وشهدت مظاهراتها طفرة في الأعداد والتأثير في عامي 2007-2008، فقفزت من 19 عام 2001 الى 94 تظاهرة عام 2008([7]).
واستعان مبارك بدائرة ضيقة اتسع نفوذها يوما بيوم بسبب تقدمه في العمر؛ فقد كان مبارك -الذي ولد سنة 1928- عندما اندلعت ثورة الشعب في يناير 2011 في الثالثة والثمانين، وهو ما دفع بطموح ابنه جمال مبارك؛ الذي سيطر على ما أسماه "لجنة السياسات" في الحزب الزطني الحاكم، مدعوما من أمه لوراثة الحكم، وبدأ سيناريو التوريث يتسارع ويمتد ليشمل كل المؤسسات في مصر.
[1] الإخوان يطرحون مبادرة لللاصلاح في مصر الجزيرة نت 3/3/2004
([2]) مبادرة جماعة الإخوان المسلمين للأصلاح الداخلي في مصر الجزيرة نت 16/5/2005
([4]) كتاب ثورة مصر الجزء الأول ص289([5]) كانت ثلاثة منها في سنة واحدة؛ 1995، هي: (القضية رقم 1995/8 جنايات عسكرية) في يناير، و (القضية رقم 1995/11 جنايات عسكرية( في نوفمبر، و(القضية رقم 1995/13 جنايات عسكرية( في نوفمبر أيضًا. و)القضية رقم 1996/5 جنايات عسكرية) و)القضية رقم 1999/18 جنايات عسكرية)، و (القضية رقم 2001/29 جنايات عسكرية)، وكانت آخر هذه القضايا في ديسمبر 2006، وهي السابعة لهم في عصر مبارك، هي (القضية رقم 2007/2 جنايات عسكرية). راجع تقريرًا بعنوان "المحاكمات العسكرية للإخوان المسلمين في عهد النظام البائد وحملات التشويه" على موقع ويكي إخوان، على الرابط: https://2u.pw/MDJSmrqI
([6])محمود جمعة: "انعقاد المؤتمر الأول لتجمع سياسي مصري يدعو للتغيير"، موقع الجزيرة نت (13/7/2005)
([7]) كتاب ثورة مصر الجزء الأول ص284
صرح د. علي الدين هلال أن الرئيس مبارك لم يعد ينكر الحديث عن التوريث سنة 2009-2010 كما كان ينكره قبل ذلك سنة 2001-2002، وأن أحد الأخطاء الكبرى هو عدم نفي ذلك نفيًا كاملاً ([1]).
بينما صرح محمد حسنين هيكل في حديثه مع لميس الحديدي بأن د. أسامة الباز المستشار السياسي لمبارك صرح له بأن اتفاقًا سيُعقد مع الصوفية في مصر بأن يؤيدوا جميعًا توريث جمال مبارك، وهو تأييد مضمون -بحسب المتحدث – لأن هؤلاء يؤمنون بحرمة الخروج على الحاكم([2]).
إن كل هذه الإشارات تؤكد أن سيناريو التوريث كان حقيقة يسعى إليها الرئيس وزوجته ومعاونوه، لتتسق الصورة التي برزت في العالم العربي مع توريث الحكم في سوريا بعد وفاة حافظ الأسد لولده بشار سنة 2000، والسعي لتوريثه في ليبيا ومصر.
كان موقف الإخوان المعلن في مارس سنة 2005 يمثل إغراء سياسيًا للنظام لإحداث حراك في الوضع الراكد، إذ صرح نائب المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حبيب أن الجماعة ستؤيد ترشيح الرئيس حسني مبارك أو نجله جمال مبارك لرئاسة الجمهورية، إذا ما اتخذت إجراءات فعلية للإصلاح السياسي منها انتخابات رئاسية تعددية بلا قيود، وإلغاء حالة الطواريء والقوانين المقيدة للحريات([3]).
لم يستجب النظام لتلك الإشارات، ولم يكن في جملتها حين تطبيقها ما يؤكد استمرار مبارك، أو تولي ولده الحكم، إذ إن إلغاء الطوارئ، وإطلاق الحريات، وإجراء انتخابات متعددة؛ سيودي بالنظام كاملاً، ولا ضمانة عندها بقدرة الإخوان على إعادة المارد إلى قمقمه؛ إن أرادوا ذلك، فقد تغير المناخ، وتبدلت المعطيات.
ثم أعلن مهدي عاكف المرشد العام للإخوان ان الجماعة ترفض التوريث مطلقًا، في حوار له مع وكالة فرانس برس([4])، ويبدو ان ذلك كان أحد أسباب التصعيد ضدهم الذي بلغ الذروة في انتخابات 2010 ليحرموا مع كل قوى المعارضة من الحضور السياسي في البرلمان.
[3] https://www.raya.com/2005/03/29/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%A4%D9%8A%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AD-%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%83-%D8%A3%D9%88-%D9%86%D8%AC%D9%84%D9%87/
[4] مرشد الإخوان في مصر يرفض توريث الحكم لجمال مبارك الرأي 14/10/2006
وبينما كان سيناريو التوريث يتسارع كانت المعارضة تبحث عن خليفة لمبارك، في هذه الاثناء ترك البرادعي منصبه كرئيس لوكالة الطاقة النووية عام 2009 ، وكان له حضور إعلامي و دولي بارز نظرًا لطبيعة منصبه، وفي ذات العام وجدت جماعات من المعارضة المصرية – منها تلك التي أسست حركة كفاية - فيه شخصية تصلح لمنافسة جمال مبارك الوريث المحتمل، فدعته لتولي قيادتها .
تغيرت واجهة المعارضة الرئيسية من "كفاية" الي "الجمعية الوطنية للتغيير"، واكتسبت زخمًا لتولى شخصية ذات حضور دولى قيادتها، بالإضافة لانضمام جماعة الإخوان المسلمون لها، بما تمثله من ثقل جماهيري، وانتشار جغرافي، وأمكانات تنظيمية، وهو ما تسبب في طفرة في الحملة الالكترونية التي اطلقتها الجمعية لجمع مليون توقيع على 7 مطالب اعلنها البرادعي في حينه، وهي:
إنهاء حالة الطوارئ
تمكين القضاء المصرى من الاشراف الكامل على العملية الانتخابية برمتها.
الرقابة على الانتخابات من قبل منظمات المجتمع المدنى المحلى والدولى.
توفير فرص متكافئة في وسائل الإعلام لجميع المرشحين، وخاصة في الانتخابات الرئاسية.
تمكين المصريين في الخارج من ممارسة حقهم في التصويت بالسفارات والقنصليات المصرية.
كفالة حق الترشح في الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية؛ اتساقًاً مع التزامات مصر طبقاً للاتفاقية الدولية للحقوق السياسية والمدنية، وقصر حق الترشح للرئاسة على فترتين.
الانتخابات عن طريق الرقم القومي. ويستلزم تحقيق بعض تلك الإجراءات والضمانات تعديل المواد 76 و77 و88 من الدستور في أقرب وقت ممكن. ([1])
ويحسب للحملة أن أنشطتها لم تنحصر في القاهرة، وأنشأت لها في المحافظات لذلك لجانا فرعية.([2])
وبينما كانت المعارضة تطرح البرادعي بديلا؛ وأسرة مبارك تدفع بجمال وريثًا محتملاً لأبيه؛ اطلقت السلطة إعلامها لتشويه البرادعي، وأجهزة أمنها للتصنت على مكتبه ([3]).
وكانت المؤسسة العسكرية تراقب الموقف الذي قد تسفر تداعياته عن خروج رأس السلطة لأول مرة منذ 1952 عن المؤسسة العسكرية، ويذكر الصحفي الأمريكي كبركباتريك أن رئيس المخابرات العسكرية عبد الفتاح السيسي كان في سنة 2010 يتوقع أن ينقل مبارك السلطة لابنه في مايو 2011، وان ذلك قد يترتب عليه ثورة المصريين([4])، ومن الراجح أن هذا الملف كان محل اهتمام مشترك مع البنتاجون في ظل ما كانت تبديه أمريكا من قلق فيما يخص ما بعد مبارك ([5]).
[1]رابط بيان الدكتور البرادعي: "معًا سنغيِّر"، على موقع الجمعية الوطنية للتغيير، على الرابط: https://web.archive.org/web/20100518124132/http://www.taghyeer.net/
[2] [2] كتاب ثورة مصر الجزء الأول ص284
25 كتاب في أيدي العسكر لكيركباترك ص 16
[4] كتاب في أيدي العسكر لكيركباترك ص 18
[5] كتاب في أيدي العسكر لكيركباترك ص 34
ويؤكد رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، عاموس يدلين إن الثورة فجرها وقادها الشباب والليبراليون والعلمانيون، وهي التي أدت لسقوط حسني مبارك، لكن في النهاية فاز الإخوان والسلفيون ب 75% في الانتخابات الحرة، واستبعد أولئك الشباب من التأثير السياسي في مصر، وتحول ما بدأ ربيعا عربيا ليصبح عاما إسلاميا، وهذه فقط البداية([1]).
ويقول الكاتب الإسرائيلي، أفي يساخروف "إن الشباب المصري العلماني، الذين أسقطوا حسني مبارك([2])
كتب الباحث في مركز القدس لشؤون الجمهور والدولة؛ يهوناتان دحوح هاليفي عن الثورة المصرية بوصفها تعبيرا يخص التيارات الديمقراطية والليبرالية في المجتمع المصري، الذين خرجوا متأثرين بالثورة التونسية ضد النظام الدكتاتوري للرئيس مبارك، وخصصت عناوين كثيرة حول الشباب المصري ووصفوا بالقوة المبادرة والمحركة للثورة الشعبية، وتعلقت آمال كبيرة بهم لينقلوا مصر لعصر الديمقراطية الغربية([3]).
الإخوان يجنون ثمرة تاريخ من العمل الاجتماعي:
اهتم الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بالحديث عن ربط تقدم الإخوان وشعبيتهم لدى المصريين، في وقت الثورة، بجهودهم الكبيرة التي ظلت مستمرة لسنوات طويلة، وتأسيسهم شبكات اجتماعية في المدن الكبيرة، وفي القرى الصغيرة التي عانت من قلة الاهتمام الإعلامي، علاوة على تعرضهم للقمع لفترات طويلة نتيجة كونهم أكثر فصيل واجه نظام مبارك.([4])
([1]) عاموس يدلين: عام على الانتفاضة العربية؛ سنة على الربيع العربي، النتائج الإقليمية والدولية ص11. معهد دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب 2012.
([2]) أفي يساخروف: سرقوا الثورة. هآرتس 25 نوفمبر 2011. https://tinyurl.com/2awa4wcx
([3]) يهوناتان دحوح هاليفي: وثيقة استخبارية تكشف؛ انخراط الإخوان المسلمين في التخطيط للثورة في مصر وتوجيهها. مركز القدس لشؤون الجمهور والدولة. 15 أغسطس 2012. https://tinyurl.com/29jom58y
([4]) - مارك هالر: ردود أفعال إسرائيلية على الربيع العربي. من: سنة على الربيع العربي، النتائج الإقليمية والدولية. ص. 75 – 77.
ثمة قاسم مشترك بين الفن والثورة، فكلاهما يمثل حالة من التمرد على الثوابت التي استقرت طويلًا في المجتمعات. الثورة تأتي عادة رد فعل على سلطة مستبدة، أو ظروف اجتماعية وسياسية خانقة، فهي تسعى للإطاحة بالمسلمات القديمة، وفتح آفاق جديدة، بالمثل يُعد الفن وسيلة تعبيرية تُمكِّن الأفراد من مواجهة المألوف، واستكشاف ما هو جديد ومثير.
لا توجد ثورة إلا وترافقها حركة فنية موازية تعبِّر عنها، وتستلهم منها، كما أن كل ثورة تترك بصمتها الفنية التي تعكس تطلعاتها وصراعاتها.
بدأ مبارك حكمه في العشرية الثانية بتضييق مساحة الحريات، وتقليص هامش الديمقراطية الذي سبق أن وصل بـ17.5% من نواب الكتلة الإسلامية إلى البرلمان؛ الأمر الذي أزعج مبارك وأدى في النهاية إلى حل البرلمان عام 1990 بحكم قضائي.
بدأ مبارك حكمه في العشرية الثانية بتضييق مساحة الحريات، وتقلص هامش الديمقراطية الذي سبق أن وصل إلى 17.5% من نواب الكتلة الإسلامية ليصبحوا أعضاء في البرلمان. الأمر أزعج مبارك، وأدى في النهاية إلى حل البرلمان عام 1990 بحكم قضائي.
تفرغ مبارك في تلك العشرية للمواجهة مع الحركة الإسلامية عمومًا، التي اتخذت مسارين: مسار العنف مع الجماعة الإسلامية والجهاد، ومسار المحاكمات الاستثنائية، ثم المحاكمات العسكرية لجماعة الإخوان المسلمين.
انسداد المسار الديمقراطي وديكتاتورية النظام أديا إلى ظهور حركة تمرد فنية حاولت التعبير عن رفضها للواقع الموجود، مما مهد لاحقًا لحالة الغليان التي ازدادت في العشرية الثالثة من حكم مبارك. ومع ذلك، يمكن اعتبار أن حالة التمرد الفني على الدولة في تلك العشرية كانت ذات بعدين:
يهاجم الدولة ممثلة في أجهزتها، وفي الوقت ذاته يهاجم أكبر قطاع معارض وثائر عليها، وهو الحركة الإسلامية عمومًا، حيث وضعها كلها في سلة العنف وجرّم سعيها للتغيير والوصول للحكم.
تديره الدولة وتنتج أفلامًا تهاجم أجهزتها، لكنها تُبرئ رأس النظام.
من أبرز الأمثلة فيلم ضد الحكومة بطولة أحمد زكي وإخراج عاطف الطيب. يتناول الفيلم شخصية المحامي الفاسد الذي أفسده انفتاح السادات والفوضى في حكم مبارك، حيث الدولة بلا ملامح أو قيم. يصطدم بحادثة أودت بحياة عدد من الفتيان وأصابت بعضهم، من بينهم ابنه، فيسعى لمعاقبة المسؤولين، لكنه يصطدم بالدولة. يكشف الفيلم عن أن من يعين الدولة على ما هي فيه هو أستاذه، أستاذ القانون الإسلامي (في إشارة إلى تحالف الدولة والإسلاميين على مستقبل مصر).
يأتي من بعده فيلم (طيور الظلام) بطولة عادل إمام، وجميل راتب، ولطفي الخولي، ويسرا، وإخراج شريف عرفة، إنتاج 1995، ليؤكد على فكرة فساد الدولة، وعبث لعبة الانتخابات، وأيضا التواطؤ بينها وبين الحركة الإسلامية، حتى إن كان ذلك عبر وسطاء مثل المحامي الفاسد (فتحي)، والمحامي الإخواني (علي)، بينما النظيف الوحيد وسط هذه المجموعة هو الشيوعي (الاشتراكي) زميلهم الثالث، وينتهي الفيلم بصراع على الكرة بين (فتحي وعلي) داخل المعتقل، في إشارة إلى استمرارية الوضع والصراع على السلطة.
أما أمثلة النوع الثاني الذي كان تمردًا موجهًا من الدولة، فجاء في أفلام كثيرة منها: (أبوزيد زمانه) بطولة نور الشريف، وحسن حسني، وإلهام شاهين، إنتاج 1995، و (131 أشغال) بطولة نور الشريف، وكمال الشناوي، وصابرين، إنتاج عام 1993.
وكلا الفيلمين تحدث عن فساد بعض رجال الدولة من الوزراء وغيرهم، مع تبرئة رأس الدولة من أي مخالفات، وكيف أن هناك أجهزة رقابية يمكن اللجوء إليها، وإن كان الأمر يتطلب تضحيات من الطرف الذي سيخوض المواجهة تصل حد فقدان حياته، أو حياة المقربين منه، فهذا النوع كان يترك بابًا مفتوحًا للإصلاح، ويعطي الأمل في أن أجهزة الدولة يمكنها محاربة الفساد.
أما مسرحيات تلك المرحلة خصوصًا ما قدمه المسرح القومي، ومسرح جلال الشرقاوي، فكان الأكثر جرأة في التمرد على الدولة في تلك العشرية، لكنهما لم يخرجا عن الحالة الأولى التي التزمت خط الخلط بين الدولة والحركة الإسلامية، ووصم الحركة الإسلامية -إضافة للعنف- بأنها الأكثر فسادا من الدولة.
ومثال ذلك، مسرحية (المليم بأربعة) بطولة نور الشريف، ونورا، ومحمود الجندي، وإخراج جلال الشرقاوي، التي تناولت أزمة شركات توظيف الأموال من وجهة نظر واحدة، من خلال شخصية (علي بمبه) نصاب المولد الذي تربى على يد (شلضم) فتوة المولد، الذي اختفى لعدة سنوات، وعاد محملاً بالدولارات ليكوّن تشكيلاً عصابيًا من نصابي المولد ليقوموا بإنشاء شركة لتوظيف الأموال؛ تعطي أرباحًا أكثر من البنوك، متخفِّين وراء ستار التدين.
بداية من العشرية الثالثة من حكم مبارك أصبح شبح التوريث يلاحق مخيلة المصريين، وكانت النكتة هي الأسبق في هذا المجال، فالنكات التي أطلقت في أواخر العشرية الثانية وبدايات العشرية الثالثة عن جمال وعلاء مبارك رسخت لدى المصريين فكرة رفض التوريث، ووصل الأمر إلى استخدام الآيات القرآنية، والأحكام الفقهية في مواجهة التوريث؛ فجاءت إحدى النكات في صورة سؤال فقهي: (هل يجوز أن يحكم جمال مبارك مصر؟)، وجاء الرد: (حرام قطعا لقوله تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ..... النساء:22).
وكثفت السينما في تلك الفترة من مواجهة النظام، مثل فيلم (هي فوضى)، إنتاج عام 2007، بطولة خالد صالح، ومنة شلبي، ويوسف الشريف، وإخراج يوسف شاهين، الفيلم تنبأ بقيام الشعب بمواجهة الدولة، والتخلص من القبضة البوليسية لها.
وتعرض الفيلم لممارسات الداخلية في أقسام الشرطة التي تحولت في العشرية الثالثة لسلخانات تعذيب، وكثرت التسريبات في ذلك الوقت من داخل أقسام الشرطة لمواطنين يتم انتهاك آدميتهم بشكل بشع، تلك التسريبات صاحبت الفيلم، وانتهت بمقتل خالد سعيد وسيد بلال؛ لتنطلق شرارة يناير 2011.
كانت رائحة الفساد قد أزكمت الأنوف، واحتكار الدولة لكل مقدرات الشعب وثرواته أصبح على كل الألسنة، وعبر عن ذلك فيلم (عايز حقي) بطولة هاني رمزي، وهند صبري، وحجاج عبدالعظيم، فصابر الشاب الفقير العاجز عن إكمال زواجه اكتشف من قراءته لمواد الدستور أن الحل في استخلاص المال العام من يد الدولة؛ لأنها لا تستطيع أن تديره من جهة، ولأنها لا تديره بعدالة من جهة أخرى، لكن الفيلم حافظ على التوازن في نقد النظام والمواطنين كذلك، فإذا كانت الدولة لا تستطيع إدارة المال العام، فالمواطن سفيه، وسيبيعه للأعداء.
وجاء في تلك الفترة فيلما (ظاظا)، بطولة كمال الشناوي، وهاني رمزي، وهند صبري، إنتاج عام 2006. وفيلم (الديكتاتور) بطولة حسن حسني، وخالد سرحان، ومايا نصري، إنتاج عام 2009، ليمهدا لاختفاء رأس الحكم من المشهد، فالرئيس في ظاظا يتم عزله بانتخابات نزيهة، تشرف عليها جهات خارجية، والديكتاتور في فيلم (الديكتاتور) تثور عليه الجماهير ثورة بلا قائد، ويتم القبض عليه من قبل أحد المواطنين، هو وأحد أبنائه، لكن وزير الدفاع يستطيع إعادة الأمور إلى نصابها، ويعيد الديكتاتور للحكم من جديد.
كلا الفيلمين أشار إلى عدم وجود أية تغييرات في الأوضاع، فظاظا المنتخب يتم قتله في نهاية الفيلم، والديكتاتور المخلوع يعيده وزير دفاعه.
الملاحظ أن هذا الصراع الفني كان دائرًا بين الدولة وكل التيارات؛ عدا الكتلة الصلبة للمعارضة، وهي الكتلة الأهم والأقوى والأكثر تأثيرًا، وهي التي رجحت كفة الثورة حين قامت، وأقصد هنا الحركة الإسلامية التي تلاشى تأثيرها في مجال الفن؛ بل امتنع تقريبا رغم شذرات هنا وهناك لم يكن لها أثر.
18 يوما من الفن والثورة
التمرد التراكمي الذي ازدادت وتيرته، وازدادت مساراته خلال العشرية الأخيرة من حكم المخلوع، وظهور محافل حاضنة للفن الموازي لفن الدولة مثل ساقية الصاوي، وغيرها، أدت لظهور فن يحمل ملامح التمرد، واشتهر عن طريقها شعراء، ومطربون، وفرق فنية، وعروض سينمائية مستقلة، جذبت قطاعات عديدة من الشباب، كل هذا أدى إلى تكوين نواة حراك الخامس والعشرين من يناير 2011.
هذا التراكم لم يؤد فقط لتفعيل موجة الحراك، وجعلها قابلة للاشتعال، بل أنتج فناني الثورة الذين سيملؤون ميدان التحرير كأفراد وفرق، فمنذ اللحظة الأولى لدخول الميدان، بدأت تتردد أغاني الشيخ إمام في تجمعات، ومع ظهور المنصات الإذاعية في الميدان بعد يوم 28 يناير، اعتلى الشعراء، وفرق الغناء، والمطربون، الذين اشتهروا قبل أعوام قليلة، منصات الثورة فكان ياسر المناوهلي، وفرقة إسكندريلا، وكاريوكي، وغيرهم.
ظهرت أعمال فنية وثائقية وروائية تروي أحداث أيام الثورة، وتعبر عن روحها، مثل: (18 يوم) وهو عبارة عن 10 أفلام قصيرة لـ10 مخرجين، كل فيلم يروي قصة درامية من قصص الميدان، وتوزعت البطولات في هذا العمل بين ناهد السباعي، وأحمد داوود، وعمرو واكد، وأحمد حلمي، وباسم سمرة.
كما شهدت الفرق الموسيقية مثل "إسكندريلا"، و"ليل وعين" ازدهارًا خلال وبعد الثورة. أعادت هذه الفرق تقديم التراث الغنائي والشعري لشعراء مثل صلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم، مما جعلها صوتًا للشباب، وأداة لإحياء التراث الثوري.
عقب الثورة، بدأت السينما والموسيقى والفنون التشكيلية تشهد نهضة جديدة؛ فرقة "كاريوكي" قدمت أغاني مثل "يا الميدان"، التي أصبحت رمزًا للصمود في ميدان التحرير. كما اشتهر حمزة نمرة بألبومه "إنسان" الذي عبَّر عن روح الثورة وآمال الشباب.
تحرك الفن في اتجاه التبشير بمرحلة جديدة تكرم الإنسان في مصر، وازدهرت مواهب جديدة في الفنون التشكيلية، لا سيما في فن "الجرافيتي" الذي زين جدران القاهرة برسومات خالدة لشهداء الثورة ورسائل الحرية. ومن أبرز المبادرات الفنية كانت مبادرة "مفيش جدران" التي حولت جدران الخرسانة المسلحة إلى لوحات فنية، تعكس رفض غلق الشوارع، وترمز إلى التمرد والحرية.
فالثورة لم تكن مجرد نقطة تحول سياسي، بل فتحت الأبواب أمام العمل الفني الجماعي؛ رسم آلاف الشباب جداريات ضخمة في ميدان التحرير وشوارع مصر، ما جعل الفن التشكيلي أحد أهم الأدوات التعبيرية عن آمال وتطلعات الشعب.
لكن هذا النوع من الفن سرعان ما تمت السيطرة عليه من قبل الأجهزة الأمنية، وتوجيهه لمواجهة الدولة الناشئة، واستغلال الأحداث المفتعلة في الهجوم وترويج الإشاعات على الحكم الذي لم يستقر بعد، وتم ملء الحوائط في البداية بشعارات مثل: (لا أمان للعسكر والإخوان)، و(إخوان كاذبون)، وغيرها من الشعارات والرسومات التي حرضت على الثورة في صورة الهجوم على الإخوان كونهم الفصيل الذي وصل إلى الحكم.
مع انقلاب الثالث من يوليو 2013، بدأ النظام الجديد في استخدام الفن وسيلة دعائية، حيث أنتج أفلامًا وأعمالاً درامية تروج لرؤيته وأهدافه من خلال شركات إنتاج مرتبطة برجال أعمال النظام، وعادت موجة قديمة للظهور من جديد، وهي شيطنة الحركة الإسلامية، ووصم أفرادها بأنهم قتلة المتظاهرين، ومن بعد قتلة أبناء الشعب من الجيش، وتصويرهم على أنهم قطعان همجية متعطشة للقتل.بدأت الشيطنة مبكرة قبل انقلاب 2013، فمع حلول عام 2012 عادت موجة (لا فرق بين الإخوان ودولة مبارك)، وأن كل الإسلاميين يسعون لقتل الناس، وجاء مسلسل (الهروب) بطولة كريم عبدالعزيز، وعبدالعزيز مخيون، ودلال عبدالعزيز، ليروج هذا الزعم وأن جماعات إسلامية وراء اقتحام السجون،
كما ظهرت موجة أخرى؛ هي التبشير بالبلطجي الصالح الذي يواجه الإسلاميين الذين يحكمون الدولة، ويقف مع الشعب المقهور، وجاء ذلك في مسلسل (طرف ثالث) بطولة عمرو يوسف، وأمير كرارة، ومحمود عبدالمغني.
وبنجاح الانقلاب توحش نظامه في تزييف الوعي الجمعي للشعب من خلال الأفلام والمسلسلات التي لعبت كلها على مجموعة من الأمور: الأزمة الاقتصادية سببها الثورة والإخوان، أزمة سيناء والإرهاب تعاون مخابراتي دولي مع الخونة من الإسلاميين، الدولة في مواجهة عنيفة من أجل المستقبل الذي يهدده الكيان الصهيوني بالتعاون مع الخونة الإسلاميين.
وفي سبيل تحقيق ذلك أنتج النظام بأموال الشعب عشرات الأفلام والمسلسلات التي تصب كلها في شيطنة كل من يقترب من محاولة إعادة المسار الديمقراطي، ووصمه بالتواطؤ مع إسرائيل والمخابرات الأمريكية، وجماعات التخريب والعنف، مثل (الخلية - كلبش - الجزيرة2 - الاختيار بأجزائه - العمارة - هجمة مرتدة).
الفن والثورة يشكلان معًا حلقة تكاملية يلهم كل منهما الآخر. وبينما تسعى الثورة إلى تغيير الواقع، يقوم الفن بتوثيق هذا التغيير والتعبير عنه، مانحًا الأمل وموسعًا آفاق الحرية والإبداع. ثورة يناير كانت وستظل نموذجًا حيًّا على هذه العلاقة المتشابكة التي تعكس قدرة الشعوب على تحويل الحلم إلى واقع والإبداع إلى فعل مقاوم.
المشكلة في جدلية الفن والثورة أنها علاقة تبادلية تقوم على معادلة إذا، وإذا فقط، فقد يُستخدم الفن في مواجهة الثورة؛ وهو في هذه الحالة (تمرد ثوري أيضًا أو ثورة مضادة)، فقد استخدم العسكر في مصر الفن لمواجهة الثورة والتمرد عليها، مستغلين طبيعة الفنان الثورية، وخلافه الظاهري مع الجماعة التي مثلت الثورة كقيادة مرحلية في ذلك الوقت.